فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسم الله} فالمعنى شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده ضربًا من القربان وجعل العلة في ذلك أن يذكروا اسم الله تقدست أسماؤه على المناسك، وما كانت العرب تذبحه للصنم يسمى العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصمًا منسكًا بكسر السين وقرأ الباقون بالفتح وهو مصدر بمعنى النسك والمكسور بمعنى الموضع.
أما قوله تعالى: {فإلهكم إله واحد} ففي كيفية النظم وجهان: أحدهما: أن الإله واحد وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح الثاني: {فإلهكم إله واحد} فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أي اخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة، والمراد الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه، ومن انقاد له كان مخبتًا فلذلك قال بعده {وَبَشّرِ المخبتين} والمخبت المتواضع الخاشع.
قال أبو مسلم: حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض، يقال أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال أنجد وأشأم وأتهم، والخبت هو المطمئن من الأرض.
وللمفسرين فيه عبارات أحدها: المخبتين المتواضعين عن ابن عباس وقتادة وثانيها: المجتهدين في العبادة عن الكلبي وثالثها: المخلصين عن مقاتل ورابعها: الطمئنين إلى ذكر الله تعالى والصالحين عن مجاهد وخامسها: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا عن عمرو بن أوس.
ثم وصفهم الله تعالى بقوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فيظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى والخشوع والتواضع لله، ثم لذلك الوجل أثران أحدهما: الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله: {والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ} وعلى ما يكون من قبل الله تعالى، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب.
فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة والثاني: الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله.
أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة، وهو المراد بقوله: {والمقيمي الصلاة} وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله: {وَمِمَا رزقناهم يُنفِقُونَ} قرأ الحسن {والمقيمي الصلاة} بالنصب على تقدير النون، وقرأ ابن مسعود والمقيمين الصلاة على الأصل. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قرئ {مَنْسِكٌ} بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا، وَبَابُ مَفْعَلُ فِي اللُّغَةِ يَخْتَلِفُ حَالُ دَلَالَتِهِ بِاخْتِلَافِ حَالِ فِعْلِهِ؛ فَإِذَا كَانَ مَكْسُورَ الْعَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَاسْمُ الْمَكَانِ مِنْهُ مَفْعَلُ، وَالْمَصْدَرُ مَفْتُوحُ الْعَيْنِ، وَاسْمُ الزَّمَانِ مِنْهُ كَاسْمِ الْمَكَانِ، قالوا: أَتَتْ النَّاقَةُ عَلَى مَضْرِبِهَا وَمَحْلَبِهَا.
وما كَانَ الْعَيْنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُ مَفْتُوحًا فَالْمَصْدَرُ وَالْمَكَانُ مَفْتُوحَانِ، كَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ، وَيَأْتِي لِغَيْرِهِ كَالْمَكْبَرِ مِنْ كَبُرَ يَكْبُرُ، وما كَانَ عَلَى فَعَلَ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ فَبِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ عَلَى يَفْعَلُ مَفْتُوحًا، لَمْ يقولوا فِيهِ مَفْعَلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ.
وَقَدْ جَاءَ الْمَصْدَرُ مَكْسُورًا فِي هذا الْبَابِ، قالوا مَطْلِعَ الشَّمْسِ، وَالْحِجَازِيُّونَ يَفْتَحُونَهُ، وَقَدْ كَسَرُوا اسْمَ الْمَكَانِ أَيْضًا، فَقالوا: الْمَنْبِتُ لِمَوْضِعِهِ، وَالْمَطْلِعُ لِمَوْضِعِهِ، فَعَلَى هذا قُلْ: مَنْسَكًا وَمَنْسِكًا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
إذَا ثَبَتَ هذا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاه، فَقِيلَ: مَعْنَى مَنْسَكًا حَجًّا.قالهُ قَتَادَةُ.
وَقِيلَ: ذَبْحًا. قالهُ مُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: عِيدًا قالهُ الْفَرَّاءُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ نَسَكْت، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: تَعَبَّدْت، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} خُصَّ فِي الْحَجِّ عَلَى عَادَةِ اللُّغَةِ.
الثَّانِي: قال ثَعْلَبٌ: هُوَ مَاخُوذٌ مِنْ النَّسِيكَةِ، وَالنَّسِيكَةُ: الْمُخَلَّصَةُ مِنْ الْخَبَثِ، وَيُقال لِلذَّبْحِ نُسُكٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ لِغَيْرِه، وَادَّعَى ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ مَعْنَى نَسَكْت ذَهَبْت، وَكُلُّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبًا فَقَدْ نَسَكَ، وَلَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَمَا رَأَى قَوْمٌ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَكَرَّرُ قال: إنَّ نَسَكْت بِمَعْنَى تَعَهَّدْت. وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّهُ الْعِيدُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمَنَاسِكِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} يَعْنِي يَذْبَحُونَهَا لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ فِي هَدْيٍ أَوْ ضَحِيَّةٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ.
المسألة الْخَامِسَةُ:
قوله تعالى: {وَمِمَا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أَمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يعني حجًا، وهو قول قتادة.
والثاني: ذبحًا، وهو قول مجاهد.
والثالث: عيدًا، وهو قول الكلبي والفراء، والمنسك في كلام العرب هو الموضع المعتاد، ومنه تسمية مناسك الحج، لاعتياد مواضعها.
{لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} فيها وجهان: أحدهما: أنها الهدي، إذا قيل إن المنسك الحج.
والثاني: الأضاحي، إذا قيل إن المنسك العيد.
قوله عز وجل: { وَبَشِّر الْمُخْبِتينَ} فيه تسعة تأويلات:
أحدها: المطمئنين إلى ذكر إلههم، وهو قول مجاهد، ومنه قوله تعالى: {فَتُخْبتْ لَهُ قُلُوبُهُم} [الحج: 54].
والثاني: معناه المتواضعين، وهو قول قتادة.
والثالث: الخاشعين، وهو قول الحسن. والفرق بين التواضع والخشوع أن التواضع في الأخلاق والخشوع في الأبدان.
والرابع: الخائفين، وهو معنى قول يحيى بن سلام.
والخامس: المخلصين، وهو قول إبراهيم النخعي.
والسادس: الرقيقة قلوبهم، وهو قول الكلبي.
والسابع: أنهم المجتهدون في العبادة، وهو قول الكلبي ومجاهد.
والثامن: أنهم الصالحون المطمئنون، وهو مروي عن مجاهد أيضًا.
والتاسع: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلمواْ لم ينتصرواْ، وهو قول الخليل بن أحمد. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل أمة من الأمم المؤمنة {منكسًا} أي موضع نسك وعبادة وهذا على أن المنسك ظرف المذبح ونحوه، ويحتمل أن يريد به المصدر، وكأنه قال عبادة ونحو هذا، والناسك العابد، وقال مجاهد: سنة في هراقة دماء الذبائح، وقرأ معظم القراء {منسَكًا} بفتح السين وهو من نسك ينسك بضم السين في المستقبل، وقرأ حمزة والكسائي {منسِكًا} بكسر السين قال أبو علي: الفتح أولى لأنه إما المصدر وإما المكان وكلاهما مفتوح والكسر في هذا من الشاذ في اسم المكان أن يكون مفعل من فعل يفعل مثل مسجد من سجد يسجد، ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب. وقوله: {ليذكروا اسم الله} معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك، ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه فالإله واحد لجميعكم بالأمر كذلك في الذبيحة إنما ينبغي ان تخلص له، و{أسلموا} معناه لحقه ولوجهه ولإنعامه آمنوا وأسلموا، ويحتمل أن يريد الاستسلام ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر بشارة على الإطلاق وهي أبلغ من المفسرة لأنها مرسلة مع نهاية التخيل، و{المخبتين} المتواضعين الخاشعين من المؤمنين، والخبت ما انخفض من الأرض والمخبت المتواضع الذي مشيه متطامن كأنه في حدود من الأرض وقال عمرو بن أوس المخبتون الذين لا يظلمون إذا ظلموا لم ينتصروا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهين اللين، وقال مجاهد: هم المطمئنون بأمر الله، ووصفهم تعالى بالخوف والوجل عند ذكر الله، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها، وقرأ الجمهور: {الصلاة} بالخفض، وقرأ ابن أبي إسحاق {الصلاة} بالنصب على توهم النون وأن حذفها للتخفيف، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ الأعمش {والمقيمين الصلاةَ} بالنون والنصب في {الصلاة} وقرأ الضحاك {والمقيم الصلاة}، وروي أن هذه الآية، قوله: {وبشر المخبتين} نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولكل أُمَّة جعلنا منسكًا}.
قرأ حمزة، والكسائي، وبعض أصحاب أبي عمرو بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها.
فمن فتح أراد المصدر، من نَسَكَ يَنْسُكُ، ومن كسر أراد مكان النَّسْك كالمجلِس والمطلِع.
ومعنى الآية: لكلِّ جماعة مؤمنة من الأمم السالفة جعلنا ذبح القرابين {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}، وإِنما خص بهيمة الأنعام، لأنها المشروعة في القُرَب.
والمراد من الآية: أن الذبائح ليست من خصائص هذه الأمة، وأن التسمية عليها كانت مشروعة قبل هذه الأمة.
قوله تعالى: {فإلهكم إِله واحد} أي: لا ينبغي أن تذكروا على ذبائحكم سواه {فله أسلموا} أي: انقادوا واخضعوا.
وقد ذكرنا معنى الإِخبات في [هود: 23] وكذلك ألفاظ الآية التي تلي هذه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا}.
لما ذكر تعالى الذبائح بيّن أنه لم يُخْل منها أمة، والأمة القوم المجتمعون على مذهب واحد؛ أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكًا.
والمنسك الذبح وإراقة الدم؛ قاله مجاهد.
يقال: نَسَك إذا ذبح يَنْسُك نَسْكًا.
والذبيحة نسيكة، وجمعها نُسُك؛ ومنه قوله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
والنسك أيضًا الطاعة.
وقال الأزهريّ في قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا}: إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع، أراد مكَان نَسْك.
ويقال: مَنْسَك ومَنْسِك، لغتان، وقرئ بهما.
قرأ الكوفيون إلا عاصمًا بكسر السين، الباقون بفتحها.
وقال الفراء: المَنْسَك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر.
وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي.
وقال ابن عرفة في قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا}: أي مذهبًا من طاعة الله تعالى؛ يقال: نَسَك نَسْك قومه إذا سلك مذهبهم.
وقيل: منسكًا عيدًا؛ قاله الفرّاء.
وقيل حجًّا؛ قاله قتادة.
والقول الأول أظهر؛ لقوله تعالى: {لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} أي على ذبح ما رزقهم.
فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له؛ لأنه رازق ذلك.
ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه: فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له.
قوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} معناه لحقّه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلِموا.
ويحتمل أن يريد الاستسلام؛ أي له أطيعوا وانقادوا.